محمد شرقاوي ـ المغرب ـ اختصاصي في المبادرات وحلول المشاكل وعضو مؤسس ومدير المشروع العالمي التربية والصحة ـ
للجواب عن هذا السؤال لابد من توضيح العلاقة مابين التربية والصحة والإجابة عن التساؤل التالي : كيف يمكن للطريقة التي تربى عليها الطفل أن يكون لها تأثير دائم على صحته الجسدية والنفسية في الصغر وعند الكبر؟
العلاقة الأولى مابين التربية والصحة تبقى واضحة. ما يسمى بالتربية، بمفهومها تكوين شخصية متزنة و مندمجة داخل المجتمع والتي تدخل ضمن الاختصاصات الحصرية للوالدين كما تطرقنا إلى ذلك بالتفصيل في مقال سابق، يتماشى مع مرحلة عمرية عند الطفل التي يكون فيها التعلم و اكتساب العادات أشد حدة. إذن منطقي أن تصبح مجموعة من السلوكيات التي اكتسبناها طيلة تلك المرحلة الحساسة من وجودنا تطبع حياتنا بصفة دائمة. أمثلة قليلة تكفي لتوضيح هذا المفهوم الجديد للتربية (والذي تم التطرق له بطريقة سهلة وعملية و فعالة من خلال الدليل العالمي التربية و الصحة الذي سيوزع (مجانا) على الآباء و آباء المستقبل على الصعيد الوطني المغربي ثم العالمي) : اللغة التي نتكلم في معظم الأحيان، الطريقة التي نطعم أنفسنا بها، تشبعنا أم لا بالتواصل وحب الآخر ..
العلاقة الثانية مابين التربية و الصحة هي الأخرى واضحة. يكفي فقط الإشارة إلى المعاملات السيئة التي يتعرض إليها الطفل في تلك المرحلة، انعدام النشاط البدني، الصدمات النفسية، تغذية غير كافية لفترة طويلة، نقص في الوقاية الغذائية.. لايمكن إلا أن يكون لها تأثير قاس في غالب الأحيان على الصحة الجسدية والنفسية الحالية للطفل وعلى صحته في الكبر. فمثلا تغذيته، كما نقوم به غالبا في هذه الأيام، على الوجبات السريعة، الشكولاتة.. تؤدي به في المدى القصير إلى مشاكل في الوزن بصفة خاصة و مشاكل في القلب والأوعية الدموية..على المدى البعيد. فالتوازن ونمط الحياة الذي نوفره اليوم للطفل يحددان حالته الصحية في المستقبل.
الترويج لتربية تضع من بين أهدافها توفير هذا النوع من التوازن و الوقاية ستمكن حتما من تحقيق نقص في تكلفة الاستشارات الطبية بالنسبة للأسرة والميزانيات الوطنية. دون أن ننسى الوقاية من الضيق والمعانات التي أصبحت تلازم الأطفال و الكبار ضحايا التربية الخاطئة التي تلقوها في الصغر.
توجد علاقة ثالثة مابين التربية والصحة. الكل يعلم بأن التربية الغير السليمة مسؤولة عن اضطرابات وظيفية ونفسية مختلفة. اضطرابات النمو، الربو، آلام الظهر، اضطرابات جلدية، تنفسية، هضمية..
إن علاج هذه الاضطرابات يلزم تكلفة مالية كبيرة :
- بالنسبة للأمراض العضوية كالالتهابات و السكري و السرطان ( 20 الى 30 في المائة من الأمراض المعالجة) تمثل على الأقل 50 في المائة من الإنفاق على الصحة.
- أما بالنسبة للأمراض النفسية كالاضطرابات في سلوكيات الفرد و الأمراض التي لها علاقة مباشرة بنفسيته (70 الى 80 في المائة من الأمراض المعالجة) فهي تمثل 40 الى 50 في المائة من الإنفاق على الصحة. إنها لتكلفة جد ضخمة يضاف إليها نفقات غير مباشرة ناجمة عنها تنهك الاقتصاد الوطني : خسائر في الإنتاجية، ازدياد عدد العاطلين، الانقطاع عن العمل، نقص في الناتج المحلي الإجمالي... فمثلا بالنسبة لبلد كفرنسا وصل الإنفاق على هذا النوع من الأمراض التي لانعيرها أي اهتمام ما يقارب 242 مليار أورو في سنة 2007.
لماذا إذن وصل الإنفاق على هذا النوع من الأمراض النفسية إلى هذا الرقم المهول الذي يزداد سنة بعد سنة ؟
هل تعلمون بأن 7 أشخاص من بين 10 الذين يستشيرون الطبيب العام يعانون من اضطرابات الحضارة أو التكيف، فمثلا التعب الذي يطول والغير الناجم عن المرض يكون سببا في 485 ألف استشارة طبية في اليوم، الأعراض المشهورة كالاكتئاب تصيب 1 من بين 10 فرنسيين، القلق المزمن 20 الى 40 في المائة من الساكنة الفرنسية و 60 في المائة في بعض المدن الأمريكية.. ، وهو ما يعني أنهم ليسوا مصابين بأمراض كالتي أشرت إليها أعلاه ولكنهم يعانون من الضيق أو صعوبة العيش الناتج عن الصعوبات التي يواجهونها للتكيف مع حياتهم الخاصة أو المهنية.
لماذا إذن يواجهون هذه المشاكل ؟
لأن الطريقة التي تربو عليها لم تهيئهم، و خصوصا أعدتهم بطريقة سيئة، لتسيير بسلاسة وبطريقة ذكية بعض تحديات حياتهم الخاصة والمهنية. و هو ما أشار إليه بوضوح صديقي الدكتور الفرنسي ايف مانيو من خلال كتابه (المجاني) الدليل العالمي التربية والصحة. فالتربية التي تلقونها لم تقدم لهم "طرق التعامل " للعيش بطمأنينة وازدهار. خصوصا في المجالات العلائقية و التكيف مع بيئة تتغير بانتظام ومنبع لعدد كبير من القيود الجسدية والنفسية.
أليس بالأحرى التفكير من الآن في وضع إستراتيجية لتربية والدية عقلانية كتلك التي اقترحناها منذ 2008 من خلال المشروع العالمي التربية والصحة الذي يروم إلى دمقرطة مفهوم جديد للتربية. مفهوم سيمكن من الوقاية الفعالة من هذه الاضطرابات النفسية وبالتالي التخفيض من التكلفة الضخمة للصحة بالنسبة للدول. لأنه ببساطة هذه الاضطرابات النفسية ترتبط ارتباطا تاما بأغلاط بداغوجية في التربية وذلك في مجالين يدخلان ضمن اختصاصات الوالدين : تكوين وطبع الشخصية من جهة ومن جهة أخرى تلقين السلوكيات الاجتماعية.
محمد شرقاوي
اختصاصي في المبادرات وحلول المشاكل
جميعا من أجل التربية
www.facebook.com/initiativeeducation
m.charkaoui@initiatives-web.com
هذا المقال تم نشره بجريدة - أخبار اليوم وبجريدة - الأخبار